إغلاق sites icon close
Search form

البحث عن موقع البلد

نبذة عن البلد

موقع البلد على الإنترنت

قوارب الموت .. قصّة ناجية

بيانات صحفية

قوارب الموت .. قصّة ناجية

خطف البحر من الشابة دعاء حبّ حياتها، لكنّها بقيت تتمتّع بالقوة لإنقاذ طفل صغير.
2 سبتمبر 2015
55e6d52a6.jpg
شاهدت دعاء البالغة من العمر 19 عاماً خطيبها يغرق في البحر الأبيض المتوسط وساعدت طفلين على النجاة من المصير نفسه.

أستمع يومياً إلى قصص أشخاص يفرون لإنقاذ حياتهم عبر الحدود والبحار المحفوفة بالمخاطر للعثور على الأمان. وتعتبر قصّة إحدى الشابات وتُدعى دعاء مؤثرةً للغاية لدرجةٍ تجعلني أبقى مستيقظةً في الليل، أفكّر فيها.

إنها لاجئة سورية تبلغ من العمر 19 عاماً وطالبة طموحة أجبرتها الحرب على أن تعيش في ظروف قاهرة مع عائلتها خارج وطنها. وفي الشهر الماضي، رويت قصّتها أمام جمهور سلسلة تيد في سالونيك في اليونان.

بما أنّها لا تملك تصريحاً للعمل في مصر، عملت دعاء جاهدةً بدوام نهاري مقابل أجر منخفض. ومع مرور الأشهر، كان خوفها يزداد. وفي أحد الأيام، حاولت عصابة من راكبي الدارجات النارية خطفها في الشارع. كانت الحرب التي أجبرت عائلتها على الفرار في عامها الرابع. وأصبح الأشخاص الذين استقبلوهم في مصر في البداية يبدون انزعاجهم منهم.

وبالرغم من كلّ ذلك، لم تفقد دعاء الأمل لأنّها وقعت في حب لاجئ آخر يُدعى باسم ووعدها باصطحابها إلى مكان آمن في أوروبا حيث يستطيعان الزواج وبناء حياة جديدة. كانت دعاء تدرك مخاطر هذه الرحلة التي ذهبت على متنها في شهر أغسطس/آب 2014، وكان أكثر من 2000 مهاجرٍ ولاجئٍ قد لقَوا حتفهم لدى عبور البحر الأبيض المتوسط في ذلك العام. لم تكن دعاء تُجيد السباحة ولكن للمرّة الثانية في حياتها، شعرت بأنّها لا تملك خياراً آخر سوى الفرار.

دفع باسم مدخراته للمهربّين؛ 2,500 دولار أميركي لكي يصطحبوهما على متن قارب صيد قديم وكان القارب مكتظاً بالركاب.

وبعد يومَيْن في البحر بدأت تشعر بالقلق وفي اليوم الثالث قالت لباسم: "لن نصل أبداً إلى الشاطئ. سنغرق جميعاً".

وفي اليوم الرابع، اقترب قارب آخر من قاربهم. كان صدئاً، وعندما طُلب من الركاب الصعود على متنه رفضوا ذلك. غادر المهربّون غاضبين ثمّ عادوا وصدموا القارب وأحدثوا فجوةً في جانب هيكله، وصرخوا قائلين: "لتنهش الأسماك أجسامكم" وراحوا يضحكون. وفي غضون دقائق، انقلب القارب وغرق وكان هناك 300 شخصٍ عالقين تحت سطحه.

وقالت دعاء: "أصبحت مياه البحر سوداء اللون. وسمعتُ صراخ الركاب وصوت المياه المتلاطمة. وشعرتُ بأنّني سأغرق". ورأت رفاص القارب يمزّق جسم أحد الأطفال إرباً إرباً. وبأعجوبة عثر باسم على عوامة، فأمسك بيد دعاء وتمكنا من الاستقرار في المياه. انتشرت الجثث في كل مكان. وتجمع الناجون الذين بلغ عددهم مئة شخصٍ في مجموعات صغيرة ودعوا الله على نية إنقاذهم. ولكن مع حلول الظلام وشروق الشمس مجدّداً، فقد الكثيرون الأمل. وشاهدت دعاء العديد من الرجال يخلعون سترات النجاة ويغرقون. شعر رجل فلسطيني بأن النهاية باتت وشيكة، فاقترب من دعاء مع حفيدته، ملك، التي تبلغ من العمر 9 أشهر، وقال لها: "أرجوكِ خُذي الطفلة. أنا متعب جدّاً،" ثمّ استسلم للبحر وفارق الحياة.

وبعد ذلك بوقت قصير، لم يعد باسم أيضاً يقوى على التحمّل. وكانت كلماته الأخيرة لدعاء: "آسف حبيبتي. أرجوكِ سامحيني". وغرق أمام عينيها. وفي وقت لاحق من ذلك اليوم، توجّهت أمّ أخرى بصعوبة إلى دعاء مع طفلتها ماسة التي تبلغ من العمر 18 شهراً. وقالت لها: "أنقذيها. فأنا لن أنجو".

وأصبحت دعاء والتي لا تُجيد السباحة، وهي في التاسعة عشرة، مسؤولةً عن إنقاذ حياة طفلَيْن صغيرَيْن بعد أن رأت خطيبها يغرق أمام عينَيْها. كانا يبكيان ويشعران بالاضطراب والجوع والعطش. فأخذت تخبرهما القصص وتلعب معهما ومرّ يوم آخر، وآخر. وفي اليوم الرابع في البحر، رأت دعاء قارباً تجارياً. وراحت تصرخ، صرخت على مدى ساعتَيْن قبل أن يحدّدوا مكانها بواسطة أضواء البحث في الظلام، ويمدوّا لها حبلاً وهم يشعرون بالذهول لرؤيتهم شابّةً تمسك بطفلَيْن.

توفيت ملك في عيادة القارب ولكنّ ماسة نجت. وهكذا أشادت وسائل الإعلام اليونانية ببطولة دعاء. وفي 19 ديسمبر/كانون الأوّل، كرمتها إحدى أبرز المؤسسات في اليونان؛ أكاديمية أثينا، بجائزة لشجاعتها.

وفي هذا العام، أصبحت قصّتها أكثر أهميةً من أي وقت مضى. فقد عبَرَ ما يزيد عن 130,000 لاجئٍ ومهاجرٍ البحر الأبيض المتوسط للعثور على الأمان وعلى حياة أفضل في أوروبا. ولقِيَ عشرات الآلاف حتفهم عى طول الطريق. يستيقظ مواطنو الاتحاد الأوروبي يومياً على المأساة عند شواطئهم. يستجيب بعضهم بالتعاطف، ولكنّ العدد الأكبر منهم يظهر العداء للأجانب.

في يونيو/حزيران، نشرت المفوضية أرقاماً جديدةً تظهر أنّ عدد اللاجئين والنازحين حول العالم بلغ 60 مليون شخص. ويفوق هذا العدد بثمانية ملايين شخص العددَ المسجل في العام الماضي، ويُعتبر الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية ويمثّل الارتفاع السنوي الأكبر على الإطلاق الذي سجّلناه. ولكن هذه الأرقام تحتاج إلى الشرح- فالبلدان النامية تستضيف 86 في المئة من اللاجئين. ويطلب جزء صغير فقط اللجوء في أوروبا. مع ذلك، لا يزال الكثير من الأشخاص في أوروبا يشعرون بالقلق تجاه الأمن والاقتصاد والتغييرات اللاحقة بثقافتهم. ولكن بالنسبة إليّ، ثمّة أمر بالغ الوضوح يطغى على كل الأمور الأخرى: يجب ألا يلقى أي شخص فارّ من النزاع أو الاضطهاد حتفه وهو يحاول العثور على الأمان.

وتتلّخص الحقيقة البسيطة في أنّ اللاجئين لن يخاطروا بحياتهم في رحلة محفوفة بالمخاطر لو أنّهم يستطيعون بناء حياة لهم في مكان تواجدهم. ولن يركب المهاجرون الفارون من الفقر المدقع هذه المراكب لو كانوا يستطيعون إطعام أنفسهم وأطفالهم. ولن يلجأ أحد إلى المهربين سيئي السمعة ويعطيه المدخرات التي جمعها طوال حياته لو استطاع الهجرة بصورة قانونية.

ماذا لو توفرت أمام دعاء إحدى الوسائل القانونية للسفر والدراسة؟ وماذا لو أُعطيَت ماسة الفرصة القانونية لكي تجتمع بأفراد عائلتها في شمال أوروبا؟ وماذا لو كان باسم يحمل تصريح عمل؟ لمَ لا يوجد أي برنامج لإعادة توطين هذه الأعداد الكبيرة من السوريين؟ ولمَ لا تحصل البلدان المجاورة التي تستضيف أربعة ملايين لاجئٍ سوري سوى على القليل من التمويل لدعم بنيتها التحتية وأنشطة التنمية فيها؟

وبالطبع، فإن السؤال الأساسي هو التالي: لمَ لا تُبذل سوى القليل من الجهود لوقف الحروب والاضطهاد والفقر الذي يدفع بالكثير من الأشخاص إلى الفرار باتجاه شواطئ أوروبا؟ أنا أعتقد بأن الناس إن علموا بقصّة دعاء، سيطلبون إنقاذ كافة اللاجئين والمهاجرين الذين يصلون إلى شواطئهم ووضع حدّ للحروب وفتح الحدود. وسيحتضنون دعاء التي لا يمتلئ قلبها بالخوف الذي دفعها إلى الفرار من منزلها فحسب وإنّما بالآمال والأحلام التي تربط بيننا جميعاً كبشر.